الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ذَكَرْنَا قَبْلُ أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مُفَصَّلَةٌ فِي الْفَصْلَيْنِ الثَّالِثَ عَشَرَ وَالرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ سِفْرِ الْعَدَدِ، وَذَكَرْنَا شَيْئًا مِنْهُمَا، وَفِي الْفَصْلِ الرَّابِعَ عَشَرَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا تَمَرَّدُوا وَعَصَوْا أَمْرَ رَبِّهِمْ سَقَطَ مُوسَى وَهَارُونُ عَلَى وُجُوهِهِمَا أَمَامَهُمْ، وَأَنَّ يُوشَعَ وَكَالَبَ مَزَّقَا ثِيَابَهُمَا وَنَهَيَا الشَّعْبَ عَنِ التَّمَرُّدِ، وَعَنِ الْخَوْفِ مِنَ الْجَبَّارِينَ لِيُطِيعَ، فَهَمَّ الشَّعْبُ بِرَجْمِهِمَا، وَظَهَرَ مَجْدُ الرَّبِّ لِمُوسَى فِي خَيْمَةِ الِاجْتِمَاعِ (11 وَقَالَ الرَّبُّ لِمُوسَى: حَتَّى مَتَى يُهِينُنِي هَذَا الشَّعْبُ؟وَحَتَّى مَتَى لَا يُصَدِّقُونَنِي بِجَمِيعِ الْآيَاتِ الَّتِي عَمِلْتُ فِي وَسَطِهِمْ؟ 12 إِنِّي أَضْرِبُهُمْ بِالْوَبَاءِ وَأُبِيدُهُمْ، وَأُصَيِّرُكَ شَعْبًا أَكْبَرَ وَأَعْظَمَ مِنْهُمْ) فَشَفَعَ مُوسَى فِيهِمْ لِئَلَّا يَشْمَتَ بِهِمُ الْمِصْرِيُّونَ وَبِهِ، فَقَبِلَ الرَّبُّ شَفَاعَتَهُ، ثُمَّ قَالَ (22 إِنَّ جَمِيعَ الرِّجَالِ الَّذِينَ رَأَوْا مَجْدِي وَآيَاتِي الَّتِي عَمِلْتُهَا فِي مِصْرَ وَفِي الْبَرِّيَّةِ، وَجَرَّبُونِي الْآنَ عَشْرَ مَرَّاتٍ، وَلَمْ يَسْمَعُوا قَوْلِي 23 لَنْ يَرَوُا الْأَرْضَ الَّتِي حَلَفْتُ لِآبَائِهِمْ، وَجَمِيعُ الَّذِينَ أَهَانُونِي لَا يَرَوْنَهَا) وَاسْتَثْنَى الرَّبُّ كَالِبَ فَقَطْ، ثُمَّ قَالَ لِمُوسَى وَهَارُونَ (27 حَتَّى مَتَى أَغْفِرُ لِهَذِهِ الْجَمَاعَةِ الشِّرِّيرَةِ الْمُتَذَمِّرَةِ عَلَيَّ؟ قَدْ سَمِعْتُ تَذَمُّرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِي يَتَذَمَّرُونَهُ عَلَيَّ 28 قُلْ لَهُمْ «حَيٌّ أَنَا» يَقُولُ الرَّبُّ لَأَفْعَلَنَّ بِكُمْ كَمَا تَكَلَّمْتُمْ فِي أُذُنِي 29 فِي هَذَا الْقَفْرِ تَسْقُطُ جُثَثُكُمْ. جَمِيعُ الْمَعْدُودِينَ مِنْكُمْ حَسَبَ عَدَدِكُمْ، مِنِ ابْنِ عِشْرِينَ سَنَةً فَصَاعِدًا، الَّذِينَ تَذَمَّرُوا عَلَيَّ 30 لَنْ تَدْخُلُوا الْأَرْضَ الَّتِي رَفَعْتُ يَدِي لَأُسْكِنَنَّكُمْ فِيهَا مَا عَدَا كَالِبَ بْنَ يَفُنَةَ وَيَشُوعَ بْنَ نُونٍ 31 وَأَمَّا أَطْفَالُكُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ إِنَّهُمْ يَكُونُونَ غَنِيمَةً فَإِنِّي سَأُدْخِلُهُمْ، فَيَعْرِفُونَ الْأَرْضَ الَّتِي احْتَقَرْتُمُوهَا 32 فَجُثَثُكُمْ أَنْتُمْ تَسْقُطُ فِي هَذَا الْقَفْرِ 33، وَبَنُوكُمْ يَكُونُونَ رُعَاةً فِي الْقَفْرِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَيَحْمِلُونَ فُجُورَكُمْ حَتَّى تَفْنَى جُثَثُكُمْ فِي الْقَفْرِ 34 كَعَدَدِ الْأَيَّامِ الَّتِي تَجَسَّسْتُمْ فِيهَا الْأَرْضَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، لِلسَّنَةِ يَوْمٌ تَحْمِلُونَ ذُنُوبَكُمْ؛ أَيْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَتَعْرِفُونَ ابْتِعَادِي 35 أَنَا الرَّبُّ قَدْ تَكَلَّمْتُ لَأَفْعَلَنَّ هَذَا بِكُلِّ هَذِهِ الْجَمَاعَةِ الشِّرِّيرَةِ الْمُتَّفِقَةِ عَلَيَّ، فِي هَذَا الْقَفْرِ يَفْنَوْنَ، وَفِيهِ يَمُوتُونَ).لَا نَبْحَثُ هُنَا فِي هَذِهِ الْعِبَارَاتِ الَّتِي أَثْبَتْنَاهَا، وَلَا فِي تَرْكِ مَا تَرَكْنَاهُ مِنَ الْفَصْلِ فِي مَوْضُوعِهَا، لَا مِنْ حَيْثُ التَّكْرَارِ، وَلَا مِنْ حَيْثُ الِاخْتِلَافِ وَالتَّعَارُضِ، وَلَا مِنْ حَيْثُ تَنْزِيهِ الرَّبِّ تَعَالَى وَلَا نَبْحَثُ عَنْ كَاتِبِ هَذِهِ الْأَسْفَارِ بَعْدَ سَبْيِ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ وَإِنَّمَا نَكْتَفِي بِمَا ذَكَرْنَاهُ شَاهِدًا، وَنَقُولُ كَلِمَةً فِي حِكْمَةِ هَذَا الْعِقَابِ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ، وَهِيَ:إِنَّ الشُّعُوبَ الَّتِي تَنْشَأُ فِي مَهْدِ الِاسْتِبْدَادِ، وَتُسَاسُ بِالظُّلْمِ وَالِاضْطِهَادِ، تَفْسُدُ أَخْلَاقُهَا، وَتَذِلُّ نُفُوسُهَا، وَيَذْهَبُ بِأْسُهَا، وَتُضْرَبُ عَلَيْهَا الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ، وَتَأْلَفُ الْخُضُوعَ، وَتَأْنَسُ بِالْمَهَانَةِ وَالْخُنُوعِ، وَإِذَا طَالَ عَلَيْهَا أَمَدُ الظُّلْمِ تَصِيرُ هَذِهِ الْأَخْلَاقُ مَوْرُوثَةً وَمُكْتَسَبَةً حَتَّى تَكُونَ كَالْغَرَائِزِ الْفِطْرِيَّةِ، وَالطَّبَائِعِ الْخِلْقِيَّةِ. إِذَا أَخْرَجْتَ صَاحِبَهَا مِنْ بِيئَتِهَا وَرَفَعْتَ عَنْ رَقَبَتِهِ نِيرَهَا، أَلْفَيْتَهُ يَنْزِعُ بِطَبْعِهِ إِلَيْهَا، وَيَتَفَلَّتُ مِنْكَ لِيَتَقَحَّمَ فِيهَا، وَهَذَا شَأْنُ الْبَشَرِ فِي كُلِّ مَا يَأْلَفُونَهُ، وَيَجْرُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَإِيمَانٍ وَكُفْرٍ، وَقَدْ ضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلًا لِهِدَايَتِهِ وَضَلَالِ الرَّاسِخِينَ فِي الْكُفْرِ مِنْ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ، فَقَالَ «مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا، وَيَجْعَلُ يَحْجِزُهُنَّ، وَيَغْلِبْنَهُ فَيَتَقَحَّمْنَ فِيهَا، فَأَنَا آخِذٌ بِحُجُزِكُمْ عَنِ النَّارِ، وَأَنْتُمْ تَقَحَّمُونَ فِيهَا». رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.أَفْسَدَ ظُلْمُ الْفَرَاعِنَةِ فِطْرَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي مِصْرَ، وَطَبَعَ عَلَيْهَا طَابَعَ الْمَهَانَةِ وَالذُّلِّ، وَقَدْ أَرَاهُمُ اللهُ تَعَالَى مَا لَمْ يُرِ أَحَدًا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَصِدْقِ رَسُولِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ أَخْرَجَهُمْ مِنْ مِصْرَ لِيُنْقِذَهُمْ مِنَ الذُّلِّ وَالْعُبُودِيَّةِ وَالْعَذَابِ إِلَى الْحُرِّيَّةِ وَالِاسْتِقْلَالِ وَالْعِزِّ وَالنَّعِيمِ، وَكَانُوا عَلَى هَذَا كُلِّهِ إِذَا أَصَابَهُمْ نَصَبٌ أَوْ جُوعٌ أَوْ كُلِّفُوا أَمْرًا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ يَتَطَيَّرُونَ بِمُوسَى وَيَتَمَلْمَلُونَ مِنْهُ، وَيَذْكُرُونَ مِصْرَ وَيَحِنُّونَ إِلَى الْعَوْدَةِ إِلَيْهَا، وَلَمَّا غَابَ عَنْهُمْ أَيَّامًا لِمُنَاجَاةِ رَبِّهِ، اتَّخَذُوا لَهُمْ عِجْلًا مِنْ حُلِيِّهِمُ الَّذِي هُوَ أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيْهِمْ وَعَبَدُوهُ، لِمَا رَسَخَ فِي نُفُوسِهِمْ مِنْ إِكْبَارِ سَادَتِهِمُ الْمِصْرِيِّينَ، وَإِعْظَامِ مَعْبُودِهِمُ الْعِجْلِ «أَبِيسَ» وَكَانَ اللهُ تَعَالَى يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا تُطِيعُهُمْ نُفُوسُهُمُ الْمَهِينَةُ عَلَى دُخُولِ أَرْضِ الْجَبَّارِينَ، وَأَنَّ وَعْدَهُ تَعَالَى لِأَجْدَادِهِمْ إِنَّمَا يِتِمُّ عَلَى وِفْقِ سُنَّتِهِ فِي طَبِيعَةِ الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ، إِذَا هَلَكَ ذَلِكَ الْجِيلُ الَّذِي نَشَأَ فِي الْوَثَنِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ لِلْبَشَرِ وَفَسَادِ الْأَخْلَاقِ، وَنَشَأَ بَعْدَهُ جِيلٌ جَدِيدٌ فِي حُرِّيَّةِ الْبَدَاوَةِ وَعَدْلِ الشَّرِيعَةِ وَنُورِ الْآيَاتِ الْإِلَهِيَّةِ، وَمَا كَانَ اللهُ لِيُهْلِكَ قَوْمًا بِذُنُوبِهِمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ حُجَّتَهُ عَلَيْهِمْ؛ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ لَمْ يَظْلِمْهُمْ وَإِنَّمَا يَظْلِمُونَ أَنْفُسَهُمْ، وَعَلَى هَذِهِ السُّنَّةِ الْعَادِلَةِ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِدُخُولِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ بَعْدَ أَنْ أَرَاهُمْ عَجَائِبَ تَأْيِيدِهِ لِرَسُولِهِ إِلَيْهِمْ فَأَبَوْا وَاسْتَكْبَرُوا، فَأَخَذَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِذُنُوبِهِمْ، وَأَنْشَأَ مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمًا آخَرِينَ، جَعَلَهُمْ هُمُ الْأَئِمَّةَ الْوَارِثِينَ، جَعَلَهُمْ كَذَلِكَ بِهِمَمِهِمْ وَأَعْمَالِهِمُ الْمُوَافِقَةِ لِسُنَّتِهِ وَشَرِيعَتِهِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ؛ فَهَذَا بَيَانُ حِكْمَةِ عِصْيَانِهِمْ لِمُوسَى بَعْدَ مَا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ، وَحِكْمَةِ حِرْمَانِ اللهِ تَعَالَى لِذَلِكَ الْجِيلِ مِنْهُمْ مَنِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ.فِعْلَيْنَا أَنْ نَعْتَبِرَ بِهَذِهِ الْأَمْثَالِ الَّتِي بَيَّنَهَا اللهُ تَعَالَى لَنَا، وَنَعْلَمَ أَنَّ إِصْلَاحَ الْأُمَمِ بَعْدَ فَسَادِهَا بِالظُّلْمِ وَالِاسْتِبْدَادِ، إِنَّمَا يَكُونُ بِإِنْشَاءِ جِيلٍ جَدِيدٍ يَجْمَعُ بَيْنَ حُرِّيَّةِ الْبَدَاوَةِ وَاسْتِقْلَالِهَا وَعِزَّتِهَا، وَبَيْنَ مَعْرِفَةِ الشَّرِيعَةِ وَالْفَضَائِلِ وَالْعَمَلِ بِهَا، وَقَدْ كَانَ يَقُومُ بِهَذَا فِي الْعُصُورِ السَّالِفَةِ الْأَنْبِيَاءُ، وَإِنَّمَا يَقُومُ بِهَا بَعْدَ خَتْمِ النُّبُوَّةِ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، الْجَامِعُونَ بَيْنَ الْعِلْمِ بِسُنَنِ اللهِ فِي الِاجْتِمَاعِ وَبَيْنَ الْبَصِيرَةِ وَالصِّدْقِ وَالْإِخْلَاصِ فِي حُبِّ الْإِصْلَاحِ وَإِيثَارِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ، وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ. اهـ.
|